المثقف العضوي
انتشر استخدام مصطلح المثقف العضوي في الأوساط الثقافية نكاية
عن أن الشخص الموصوف بهذه الصفة يتميز عن أقرانه بشيء مبهم لا نعرفه كونه ( عضويا
) وهذه الصفة كانت مستخدمة من قبل في مجال الزراعة والأسمدة فظهرت الأسمدة
المعدنية ( يالنتروجينية – الأمونيا – الفوسفات – الأزوت وغيرها ) وعرفت الأسمدة
غير الكيمائية باسم الأسمدة العضوية صديقة البيئة . فهل يقصد هنا تشبيه المثقف
بالسماد الذى يضطلع بدور رئيسي في تغذية النباتات ومساعدتها علي النمو ؟
وبرز
مصطلح "المثقف العضوي" أولا في الفكر الماركسي بفضل المفكر الإيطالي أنطونيو
غرامشي، وذلك في سياق سعيه لتفسير دور المثقفين في المجتمعات الرأسمالية. ويُعرّف
غرامشي المثقف العضوي بأنه مثقف ينتمي إلى طبقة معينة، ويدافع عن مصالحها وأفكارها،
ويسعى لقيادة نضالها من أجل التغيير الاجتماعي.ولهذا المثقف العضوي خصائص يتميز
بها منها :
- الارتباط بالطبقة التي ينتمي لها
. ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بقضاياها وتطلعاتها.
- كما يتميز الوعي الطبقي العميق
بواقع طبقته، وظروفها، وتحدياتها.
- ويلتزم المثقف العضوي بالنضال من
أجل تحرير طبقته وتحقيق مصالحها.
- كما يتولي المثقف العضوي مهمة
قيادة طبقته فكريًا، وتوجيه نضالاتها.
- ويكون ذا قدرة على التواصل مع
أفراد طبقته، وشرح أفكاره لهم.
وهكذا تم تسييس دور المثقف وتم حصر توجهه سياسيا
لخدمة طبقة اجتماعيا بعينها دون غيرها ويميز غرامشي بين المثقف العضوي ونوعين
آخرين من المثقفين :
- المثقف التقليدي الذي ينتمي إلي الطبقات الحاكمة، ويدافع
عن مصالحها وأفكارها.
- المثقف الكوني وهو الذي ينفصل عن أي طبقة اجتماعية، ويسعى لخدمة
الإنسانية جمعاء.
ويُؤكّد غرامشي على أهمية دور المثقف العضوي في
تحقيق التغيير الاجتماعي، وذلك من خلال
- نشر الوعي: حيث يعمل المثقف
العضوي على نشر الوعي الطبقي بين أفراد طبقته، وتوعيتهم بواقعهم وظروفهم.
- قيادة النضال: ويتولى المثقف
العضوي مهمة قيادة نضالات طبقته من أجل التغيير الاجتماعي.
- التثقيف: يساهم المثقف العضوي في
تثقيف أفراد طبقته، وتزويدهم بالمعرفة اللازمة للمشاركة في الحياة العامة.
ولقد تم تطبيق مفهوم المثقف العضوي على العديد من
الحركات الاجتماعية والسياسية، مثل:
- الحركة العمالية حيث لعب
المثقفون العضويون دورًا هامًا في تأسيس الحركة العمالية، وقيادة نضالاتها من
أجل حقوق العمال.
- الحركات التحررية: ساهم المثقفون
العضويون في نضالات الشعوب من أجل التحرر من الاستعمار.
- الحركات النسوية: لعبت المثقفات
العضويّات دورًا هامًا في نضال المرأة من أجل المساواة والعدالة.
يُعدّ مفهوم المثقف العضوي مفهومًا هامًا لفهم
دور المثقفين في المجتمع، وتأثيرهم على التغيير الاجتماعي. ولقد تم تطبيق هذا
المفهوم على العديد من الحركات الاجتماعية والسياسية، و أثبت فعاليته في تحليل دور
المثقفين في هذه الحركات.
ولم يختلف مفهوم
المثقف كثيرا عند الفيلسوف المصري والعالم الكبير الراحل د . عبد الرحمن بدوي
ويعد عبد الرحمن بدوي (1917-2002) من أهمّ
المفكرين العرب في القرن العشرين، وقد ترك إرثًا فكريًا غنيًا تنوع بين الفلسفة
والتاريخ والتصوف والأدب. اهتم بدوي بمفهوم المثقف بشكل خاص، وقدم تصوراً متميزًا
له عكس أفكاره ورؤيته للعالم. فيعرف بدوي المثقف بأنه "الإنسان الذي يمتلك
وعيًا نقديًا تجاه الواقع، ويسعى لفهمه وتغييره نحو الأفضل". ويُؤكّد على أنّ
المثقف ليس مجرّد شخص مثقف ثقافيًا، بل هو إنسان ملتزم بقضايا مجتمعه ويسعى للدفاع
عن حقوقه.
ويرى بدوي أنّ المثقف يتمتع بعدة خصائص، أهمها:
- المعرفة: يمتلك المثقف معرفة
واسعة في مختلف المجالات، ولا سيما الفلسفة والتاريخ والأدب.
- الوعي النقدي: يتمتع المثقف
بقدرة على تحليل الواقع بشكل نقدي، وتحديد مواطن الخلل فيه.
- الالتزام: يُؤمن المثقف بقضايا
مجتمعه، ويسعى للدفاع عن حقوقه.
- الشجاعة: لا يخاف المثقف من التعبير
عن آرائه، حتى لو كانت مخالفة للرأي العام.
- المسؤولية: يُدرك المثقف
مسؤوليته تجاه مجتمعه، ويسعى للمساهمة في تحسينه.
ويري بدوي أن
المثقف يعتبر هو صوت مجتمعه المطالب بالتغييروالعدالة الاجتماعية. وهو في سبيل ذلك
ينير الطريق أمام الناس من خلال أفكاره ومعرفته . وهو يقوم بدور الجسر بين
الثقافات فيُساهم في الحوار بين الثقافات المختلفة ونشر المعرفة.
والمثقف عند
بدوي يخدم مجتمعه بينما عند غرامشي فهو يخدم طبقته .
نعود إلي سبب استخدام هذا المصطلح ( العضوي ) ونقله من عالم الزراعة
والأسمدة إلي عالم الثقافة والمثقفين وهو ما حدث بعد انهيار الأنظمة
الشيوعية حيث أدى انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط أنظمة المعسكر الشرقي إلى تراجعٍ
كبيرٍ في التأثير السياسي للماركسية. ولكن بقاء بعض الأحزاب الماركسية التي لا
تزال موجودةً في بعض الدول، مثل الصين وكوبا وفيتنام، لكنها تخلت عن بعض مبادئ
الماركسية الكلاسيكية. وأدخلت عليها الكثير من التعديلات الفكرية والاستراتيجية
التي تحاول الاستفادة من التطورات الإيجابية في النظم الرأسمالية فظهرت حركاتٍ
سياسيةٍ جديدة تستلهم بعض الأفكار الماركسية، لكنها لا تُعتبر ماركسيةً بحتةً.
فعلي سبيل
المثال على المستوى الاقتصادي
- فشل النموذج الاقتصادي الشيوعي:
أثبت النموذج الاقتصادي الشيوعي فشله في تحقيق النمو الاقتصادي المستدام
وتحقيق الرفاهية للمجتمعات.
- انتشار الرأسمالية: أصبحت
الرأسمالية النظام الاقتصادي المهيمن في العالم، وذلك بعد انهيار الاتحاد
السوفيتي وسقوط أنظمة المعسكر الشرقي.
- تأثير أفكار ماركسية على
الاقتصاد: لا تزال بعض أفكار ماركسية تؤثر على بعض السياسات الاقتصادية، مثل
تأكيدها على أهمية العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة بشكلٍ عادل.
بينما على المستوى الاجتماعي:
- تراجع التأثير الاجتماعي: شهدت
الماركسية تراجعًا ملحوظًا في تأثيرها الاجتماعي خلال النصف الأخير من القرن
العشرين.
- استمرار التأثير في بعض
المجتمعات: لا تزال بعض أفكار ماركسية تؤثر على بعض المجتمعات، مثل التركيز
على أهمية المساواة الاجتماعية ومكافحة الظلم.
- تطور الخطاب الاجتماعي حيث شهد
الخطاب الاجتماعي تطورًا وتجديدًا مع مرور الزمن، حيث ظهرت قضاياٌ اجتماعيةٌ
جديدةٌ لم تكن موجودةً في زمن ماركس.
ولكن هل سقطت الماركسية ثقافيًا؟
يُعدّ تقييم تأثير الماركسية على الثقافة مسألةً
معقدةً ومثيرةً للجدل، حيث تتباين الآراء حول مدى انتشارها وتأثيرها الثقافي. فلا
يزال للماركسية تأثيرٌ ثقافيٌّ ملحوظٌ في بعض المجالات، مثل الفن والموسيقى
والأدب.
- كما تغلغلت بعض الأفكار
الماركسية في الثقافة الشعبية، مثل التركيز على أهمية العدالة الاجتماعية
ومكافحة الظلم.
ومع هذا يستمرالجدل حول الثقافة الماركسية في
مجتمعنا ربما أكثر كثيرا من الدول ذات الأنظمة السياسية التي كانت تؤمن بالماركسية
، حيث يرى البعض أنّ الماركسية هي فلسفةٌ سياسيةٌ واقتصاديةٌ وليست مجرد ثقافةً
بحدّ ذاتها.