هل النقد موهبة أم علم ؟
النقد هو مزيج فريد من الموهبة والعلم ولا يمكن
الاستغناء عن أحدهما ليكون الناقد فعّالاً ومؤثراً هو ليس مجرد رأي شخصي أو انطباع
عابر بل إنه عملية منظمة تتطلب أساساً معرفياً وذوقاً رفيعاً.
النقد كموهبة : تُعد الموهبة جانباً أساسياً في النقد وتشمل
عدة جوانب فطرية
- الذوق الفني/الأدبي: القدرة على
التمييز بين الجيد والرديء، والشعور بالجمال أو القبح في العمل. هذا الذوق قد
يكون فطرياً ولكنه يتطور بالقراءة والاطلاع والخبرة.
- الحدس والبصيرة : القدرة على
رؤية ما وراء السطور وما بينها واستشعار المعاني الخفية والدلالات العميقة
التي قد لا تكون ظاهرة للعيان.
- الحساسية الفنية : القدرة على التفاعل العاطفي والفكري مع
العمل وفهم رسالته وتأثيره.
- القدرة على الربط : موهبة ربط
الأفكار، الأحداث، والشخصيات ببعضها البعض، وإيجاد العلاقات الخفية بينها.
- الذكاء التحليلي: القدرة على
تفكيك العمل إلى أجزائه، وفهم كيفية عمل كل جزء ضمن الكل.
هذه الموهبة هي التي تمكن الناقد من
"رؤية" العمل بطريقة مختلفة، وتوفر له الإحساس الأولي الذي يبني عليه
تحليله.
النقد كعلم
بجانب الموهبة، يعتمد النقد بشكل كبير على العلم
والمعرفة المكتسبة والتي تشكل الأسس المنهجية لعملية النقد :
- الأسس النظرية والمناهج النقدية:
يوجد العديد من النظريات والمناهج النقدية (مثل المنهج البنيوي، التاريخي،
النفسي، الاجتماعي، التفكيكي، السيميائي، وغيرها). يجب على الناقد أن يكون
ملماً بهذه المناهج ليختار الأنسب لتحليل العمل، ويفهم الأدوات والمصطلحات
الخاصة بكل منهج.
- الثقافة الواسعة : يجب أن يمتلك
الناقد ثقافة أدبية وفنية وتاريخية واسعة تمكنه من وضع العمل في سياقه
الثقافي والتاريخي والاجتماعي وكذلك معرفة الأدب العالمي والحركات الفنية
وتطور الأفكار يساعد الناقد على تقدير أصالة العمل ومدى مساهمته.
- المهارة اللغوية : القدرة على
التعبير بوضوح ودقة عن الأفكار النقدية واستخدام المصطلحات المتخصصة بشكل
صحيح والغريب أننا نجد في الأقاليم من يزعمون أنهم نقادا ولا يملكون من هذه
الأدوات شيئا يذكر فلا ثقافة ولا علم ولا قراءة ولا إلمام بالمناهج ولا حتي
إلمام باللغة التي يتعامل بها نحوا وصرفا وإملاء
- الموضوعية والمنطقية: النقد ليس
مجرد انطباع شخصي، بل هو حكم يقوم على أدلة وبراهين مستمدة من النص نفسه.
الناقد الجيد يسعى للابتعاد عن التحيز الشخصي قدر الإمكان ويقدم تحليلاً
منطقياً مدعماً
- المنهجية البحثية: يتطلب النقد
أحياناً البحث والتقصي عن معلومات حول العمل أو الكاتب، مما يستدعي مهارات
بحثية جيدة.
التكامل بين الموهبة والعلم
الناقد المتميز هو من يجمع بين الأمرين:
- الموهبة تمنحه الشرارة الأولى،
والإحساس العميق بالعمل، والقدرة على اكتشاف الجوانب الفريدة فيه.
- والعلم يمنحه الأدوات اللازمة
لتحليل هذا الإحساس، وتنظيمه في إطار منهجي، وتقديمه بشكل مقنع وموضوعي.
بدون الموهبة، قد يصبح النقد جافاً ومجرداً من
الروح، مجرد تطبيق آلي لقواعد نظرية. وبدون العلم، قد يظل النقد مجرد انطباعات
شخصية غير مؤسسة، لا تقدم قيمة حقيقية أو فهماً عميقاً للعمل. لذلك، النقد الحقيقي
هو فن يرتكز على علم، وعلم تدعمه موهبة. ومن المدهش حقا أن تجد اليوم بعضا ممن
نضبت مواعين موهبتهم في كتابة الشعر فاتجه إلي احتراف النقد باعتباره السلعة
الأسهل تناولا بالرغم من أنه عندما كانت موهبته الشعرية متقدة كان ينكر النقد
ويعتبر الناقد أشبه بجزار يسن سكاكينه ليقطع لحم وبنية الإبداع والمبدعين فإذا هو
اليوم ينضم طوعا إلي زمرة الجزارين ولكنه بدلا من الإمساك بسكين التقطيع يمسك
زهورا يجامل بها المبدعين فيطريهم مديحا وثناء ويقدم بهذا علي أنه الناقد الكبير
بين شلته وأقرانه
ما هي أدوات الناقد الفني أو الأدبي
يمتلك الناقد الفني أو الأدبي مجموعة واسعة من
الأدوات التي تمكنه من تحليل العمل الإبداعي وتقييمه وتقديم رؤيته النقدية. هذه
الأدوات لا تقتصر على المعرفة النظرية فحسب، بل تشمل أيضاً المهارات الشخصية
والثقافية ويمكن تقسيم هذه الأدوات إلى عدة محاور رئيسية:
1. المعرفة
النظرية والمناهج النقدية:
هذه هي "عدّة" الناقد الأساسية وتمكنه
من التعامل مع العمل بشكل منهجي وعلمي.
- المناهج النقدية المتنوعة:
الإلمام بأكبر قدر ممكن من المناهج النقدية التي تطورت عبر التاريخ، واختيار
المنهج الأنسب للعمل المراد نقده. من أبرز هذه المناهج:
- المنهج التاريخي: يربط العمل
بسياقه التاريخي، وظروف نشأته، وتأثره بالزمان والمكان.
- المنهج الاجتماعي: يركز على
العلاقة بين العمل والمجتمع، وكيف يعكس العمل القضايا الاجتماعية أو يؤثر فيها.
- المنهج النفسي: يحلل العمل من
منظور نفسي، ويركز على شخصية المبدع، دوافعه اللاواعية، أو تحليل شخصيات
العمل.
- المنهج البنيوي/الشكلي: يركز
على بنية العمل الداخلية، وعلاقات الأجزاء ببعضها، والعناصر الفنية
(كالأسلوب، اللغة، السرد، الألوان، الخطوط).
- المنهج السيميائي: يدرس
العلامات والرموز في العمل وكيف تنتج المعنى.
- المنهج الثقافي: يربط العمل
بسياقاته الثقافية الأوسع، ويكشف عن القيم والأيديولوجيات الكامنة فيه.
- النقد الجندري/النسوي: يحلل
تمثيل النوع الاجتماعي (الجندر) والعلاقات بين الجنسين في العمل.
- مناهج ما بعد
البنيوية/التفكيكية: تسعى إلى تفكيك المعاني الثابتة في النص وكشف التناقضات
الداخلية فيه.
- النظريات الجمالية: فهم نظريات
الجمال والفن، وكيف يتم تعريف الجمال في سياقات مختلفة.
- مصطلحات النقد: الإلمام بالمصطلحات الفنية والأدبية المتخصصة (مثل: الاستعارة، الكناية، الرمز، التناص، الحبكة، الشخصية، اللون، التكوين، الإيقاع، إلخ) واستخدامها بدقة.
2. الثقافة
والخبرة:
الناقد ليس مجرد محلل، بل هو قارئ أو مشاهد واسع
الاطلاع.
- الثقافة الأدبية والفنية
الواسعة: الاطلاع على تاريخ الأدب والفن، روائع الأعمال الكلاسيكية والمعاصرة،
المدارس والاتجاهات المختلفة، وحياة المبدعين. هذه الثقافة تمنحه إطارًا
للمقارنة والتقييم.
- الخبرة المتراكمة: النقد يتطور
بالممارسة المستمرة والتعرض لعدد كبير من الأعمال. كل عمل جديد يضيف إلى خبرة
الناقد ويعمق رؤيته.
- معرفة بالسياق: فهم السياقات التاريخية،
الثقافية، الاجتماعية، والسياسية التي أُنتج فيها العمل، وكيف تؤثر هذه
السياقات على العمل ومعناه.
3. المهارات
التحليلية والفكرية :
هذه هي المهارات الذهنية التي تمكن الناقد من
تطبيق أدواته.
- التحليل والتفكيك: القدرة على
تقسيم العمل إلى عناصره الأساسية (شخصيات، أحداث، أسلوب، رموز، ألوان، خطوط،
إلخ) وفهم كيفية ترابطها وتأثيرها المتبادل.
- الاستنتاج والاستدلال: استخلاص
المعاني والدلالات من العمل، والوصول إلى أحكام بناءً على الأدلة المستمدة من
النص نفسه.
- الربط والمقارنة: القدرة على ربط
العمل بأعمال أخرى (تناص)، أو مقارنته بأساليب وموضوعات مشابهة، أو وضعه في
سياق تيار فني معين.
- التفكير النقدي: القدرة على طرح
الأسئلة الصحيحة، تقييم الحجج، وتكوين رأي مستنير بناءً على الفحص الدقيق.
- الموضوعية (قدر الإمكان): السعي
للابتعاد عن الأحكام المسبقة والتحيزات الشخصية، والتركيز على النص نفسه.
4. المهارات
اللغوية والتواصل لأن النقد في جوهره هو عملية تواصل.
- القدرة اللغوية العالية: امتلاك
ناصية اللغة التي يكتب بها الناقد والقدرة على التعبير عن الأفكار المعقدة
بوضوح ودقة وجمال واستخدام لغة واضحة
ومقنعة.
- الكتابة الفعالة : القدرة على
صياغة النقد بشكل متماسك ومنظم وجذاب مع استخدام الحجج المنطقية والأدلة
النصية.
- مهارات البحث : القدرة على البحث
عن المعلومات والتحقق من المصادر وجمع البيانات ذات الصلة بالعمل أو المبدع .
- الخطاب النقدي: القدرة على بناء
حجة نقدية متكاملة تتضمن الوصف والتحليل والتفسير والتقييم.
5. الصفات
الشخصية (الذوق والموهبة):
رغم أن النقد علم، إلا أن الموهبة والذوق جزء لا
يتجزأ من أدوات الناقد.
- الذوق الفني/الأدبي: وهي موهبة
فطرية يمكن صقلها، تمكن الناقد من تقدير الجمال، والتعرف على الأصالة،
واكتشاف نقاط القوة والضعف.
- الحس النقدي: الشغف بتحليل
الأعمال، والتساؤل عن معناها، ودوافعها، وتأثيرها.
- الضمير الأدبي/الفني: الأمانة في
النقل، والحيادية في الحكم، والحرص على النقد البناء الذي يخدم العمل
والمبدع.
- الشجاعة الفكرية: القدرة على
التعبير عن رأيه النقدي، حتى لو كان مخالفاً للرأي السائد، مع تقديم الحجج
والبراهين.
باختصار، الناقد الفعال هو من يجمع بين المعرفة
الأكاديمية العميقة والثقافة الواسعة والقدرة التحليلية الفائقة والمهارة اللغوية
والذوق الفني الموهوب. هذه الأدوات مجتمعة تمكنه من تقديم قراءة متعمقة، شاملة،
ومؤثرة للعمل الفني أو الأدبي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق