الأقزام صاروا عمالقة
في 2007 كتبت هذا المقال
وكأنني أكتبه اليوم مع بعض التعديلات البسيطة جدا ففي خضم الأحداث المتتابعة
والسريعة قذفت المقادير بكثير من الأقزام ليتبوءوا كراسي القيادة في بلادنا وبدلا
من أن يتفرغوا للبناء وإنقاذ السفينة من الغرق تفرغوا للنيل من عمالقة سبقوا فهيهات
أن تطال أعناق الأقزام مواطئ عملاق رحل مثل عبد الناصر .
من أشهر أعمال الكاتب
الإنجليزي جوناثان سويفت (1667-1745 م) ما كتبه عن رحلات جاليفر وهي من أشهر
أعماله وهو يعد من أعظم الكتاب الإنجليز في مجال الكتابة الساخرة وقد تحدث في
رواياته عن شخصية لومويل جاليفر وهو طبيب إنجليزي بارد الأعصاب، ونادراً ما يبدي
أي انطباع شخصي أو استجابة عاطفية عميقة. وتتحدث الرحلات التي قام بها عبر البحار
عن غرق سفينته وسباحته إلي إحدى الجزر ويذهب في غفوة ليستيقظ فيجد نفسه موثقا
بخيوط كثيرة ومثبتة إلى الأرض ويحيط به أعداد كبيرة من الأقزام يحملون سهاماً
وأقواساً حتى نهاية القصة المعروفة حتى صار عملاقا في بلاد الأقزام ومرة
أخرى كانت الرحلة إلي جزيرة أخري من العمالقة فصار هو قزما وسط العمالقة وفي جميع
الأحوال لم يتغير حجم جاليفر فحجمه ثابت ولكن البيئة المحيطة به هي التي كانت
تتغير فتجعل منه مرة عملاقا ومرة أخرى قزما .
هذا النموذج الرائع لكاتب متميز ما يزال صالحا لتطبيقه عمليا علي مجتمعاتنا
عبر الزمن ففي زمن ليس بالبعيد عاصرنا عمالقة في الأدب كالعقاد وطه حسين وقرأنا
لشوقي وحافظ إبراهيم ومحمد حسين هيكل والمنفلوطي والمازني والغاياتي والأسمر
وغيرهم في مجال العلوم مثل مشرفة وسميرة موسي وفي الفن سيد درويش وأم كلثوم وعبد
الوهاب وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وغيرهم ثم تلاهم جيل آخر من العمالقة أيضا
مثل بنت الشاطئ وزكي نجيب محمود وشوقي ضيف وطاهر أبو فاشا ومحمد مصطفي حمام
والماحي ثم صلاح عبد الصبور وصلاح جاهين وفاروق شوشة وبالتدريج غاب كثير من العمالقة
عن الساحة وتركوا من بعدهم كثيرين كانوا في وجودهم مجرد تلامذة ولن أقول أقزام في
كل المجالات . وما ينطبق علي الأدب ينطبق علي العلوم وعلي مختلف الفنون بل ومختلف
النشاطات السياسية والاجتماعية حتي في مجال الرياضة .
وإذا راجعنا تاريخنا
الفرعوني القديم نعرف أن المصريين القدماء كانوا عمالقة عظام قدموا للعالم حضارة
تتضاءل بجوارها كافة الحضارات الأخرى ولكن ماذا حدث بعد ذلك ؟ شيئا فشيئا تتضاءل
القامات فتتضاءل الإبداعات ويظن مبدعي كل زمان أن ليس بالإمكان أفضل مما هو كائن
ومن عجب أن تتضخم الذوات شيئا فشيئا بعد غياب العمالقة الحقيقيين ويصل الأمر إلي
أن يعتقد الأقزام بعد ما غاب العمالقة أنهم قد صاروا عمالقة في ساحة قد خلت إلا
منهم ، فأصبحنا نسمع من مبدع مغمور في فن من الفنون يقدم نفسه أو يقدمه
أقرانه بأنه المبدع الكبير والفنان المتألق وأمير الطرب وملك الأغنية والكاتب
العملاق والإعلامي العظيم وهكذا ويتبادل الخلان إطلاق الصفات علي بعضهم البعض
وأصبحت تلك الألقاب مشاعا مبتذلا حتى بين صبية الإبداع في مختلف المجالات ، أقول
هذا بعدما حضرت إحدى الندوات فإذا بمقدم الندوة يقدم الشاعر الكبير فلان والقاص
المتألق علان إلي آخر هذه الصفات التي فقدت معناها وقيمتها في مجتمع غاب فيه
العمالقة ولم يبق إلا …
معذرة لم أقصد علي
الإطلاق إهانة أي مبدع ولكن كل مبدع يمكن أن يصير عملاقا يوما ما بإبداعه وليس
بمجاملات الآخرين له .
ويحدث أن يتحدث
أحدهم أو يكتب في هذا السياق ولكن الغريب حقا أن هناك بعدا سيكولوجيا صار يحكم
البعض في كتاباتهم انطلاقا من مدي تعارض أو توافق الآخرين مع مصالحهم الذاتية فصار
الإبداع هدفا للكسب الشخصي وصار النقد بالتالي هدفا للتجريح والهدم ويبقي علينا أن
نسأل دوما عند كل مبادرة أو خاطرة عمل ما – ماذا نريد ؟ للأسف كثيرين لا
يعرفون ماذا يريدون مما يكتبون سوي ذلك البعد السيكولوجي ؟
محمد عبد
المنعم إبراهيم
دمياط في 6 / 12
/2007
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق