الثقافة والمثقف
الثقافة هي التراث الفكري الذي تتميز به
جميع الأمم عن بعضها البعض. حيث تختلف طبيعة الثقافة وخصائصها من مجتمع لمجتمع
آخر، وذلك للارتباط الوثيق الذي يربط بين واقع الأمة وتراثها الفكري والحضاري، كما
أن الثقافة تنمو مع النمو الحضاري للأمة، وكما أنها تتراجع مع ذلك التخلف الذي
يصيب تلك الأمة، وهي التي تعبر عن مكانتها الحضارية بالثقافة التي وصلت إليها.
ولأن الثقافة هي مجموع العقائد والقيم
والقواعد التي يقبلها ويمتثل لها أفراد المجتمع. ذلك أن الثقافة هي قوة وسلطة
موجهة لسلوك المجتمع ، تحدد لأفراده تصوراتهم عن أنفسهم والعالم من حولهم وتحدد
لهم ما يحبون ويكرهون ويرغبون فيه ويرغبون عنه كنوع الطعام الذي يأكلون ، ونوع
الملابس التي يرتدون ، والطريقة التي يتكلمون بها ، والألعاب الرياضية التي
يمارسونها والأبطال التاريخيين الذين خلدوا في ضمائرهم ، والرموز التي يتخذونها
للإفصاح عن مكنونات أنفسهم ونحو ذلك .
والثقافة تتكون من خلال النمو التراكمي على
المدى الطويل : بمعنى أن الثقافة ليست علوماً أو معارف جاهزة يمكن للمجتمع أن يحصل
عليها ويستوعبها في زمن قصير ، وإنما تتراكم عبر مراحل طويلة من الزمن ، تنتقل من
جيل إلى جيل عبر التنشئة الاجتماعية : فثقافة المجتمع تنتقل إلى أفراده الجدد عبر
التنشئة الاجتماعية ، حيث يكتسب الأطفال خلال مراحل نموهم الذوق العام للمجتمع . ونتيجة للانحباس الفكري والسلوكي في
ثقافتنا زمن الاحتلال فإننا علي النقيض من ذلك في زمن الانفتاح الجنوني الذي يؤدي
إلي اللا هوية ، وبين
الانغلاق الغبيِّ الذي لا يحسن سوى التكرار بلا ذاتية، فكادت الثقافة تَموت عندنا
لأنَّها قليلة التفكير، وفقدْنا المعالم، وسادت ثقافة الإلْغاء والاستبعاد.ومع
ثقافة ا لانفتاح كادت تضيع الهوية ومعالم ثقافتنا الشخصية ، فكل مبدع لا يرى إلا
فضاءه هو الذي لا يتسع لصاحب رأي مخالف أو طرح مغاير فسادت الأنا وعلت وقنعنا
بانتظار السيد الأوحد الأعلم الأقوى لهذا
لا تعرف دنيانا نحن - في الغالب - سوى ثقافاتٍ باردةٍ هابطةٍ متحجِّرةٍ، بينما
ينعم آخرون بثقافات حارَّةٍ صاعدةٍ منتشرةٍ، وهذا ما يصنع الفرق بيننا وبيْنهم،
إنَّ ثقافة الانحِطاط مازالت راسخةً في نفوسِنا، وهي التي جعلتْنا لا نطيق بعضنا،
ولا نرى إلاَّ الأبيض والأسوَد، ونلغي باقي الألوان باسم الدين تارة أو التَّاريخ،
أو الجغرافيا، أو بذرائع مختلفة تارة أخرى .
ولما كنَّا عاجزين
عن مواجهة مَن هزمونا، أصبحْنا نتفنَّن في مواجهة بعضِنا باللَّعن والتَّكفير
والانتِقاص، والتهديد بالإبادة السياسيَّة والثقافيَّة، ولو تشرَّبنا ثقافة
الحرِّيَّة لما حدث هذا، لكنَّنا قرَّرنا ألاَّ نحتملها؛ لأنَّها ببساطة ثقافة
النقْد والرأْي، والدخول في عالم الآخَرين من غير إقصاءٍ ولا تهديدٍ ولا نرجسيَّةٍ.
تكلمنا كثيرا عن
نقد الذات ولكننا نقدنا الآخر وحده، وتكلَّمنا عن حرِّيَّة الرَّأي بشرْط أن
يُوافق الرَّأي السَّائد، ونتكلَّم عن الآخرين لكنَّنا لا نرى إلاَّ أنفُسَنا،
ويبلغ الأسى مداه حين زعُم البعض أن هذا ما يأمرُنا به الإسلام، أو أن هذا ما
تقتضيه الحداثة، وقد قرَّر سدنة معبد الاستبداد وحرَّاس الخطأ من قديمٍ : أن لا
حرِّيَّة لأعداء الحرِّيَّة، فشاعت النمطيَّة والتَّحنيط ، ولم ينجُ منها إلاَّ
أصحاب الأفكار الحيَّة المنعِشة، في حين غدَتْ من ثوابت المتشبِّثين بالأفكار
الميِّتة والقاتلة؛ فرفض كل جيل بنخبته بزوغ نبت مبدع جديد واستكثروا عليه أن ينمو
بجوارهم فبحث له عن صوبة تظله حتى يجد نفسه فلم ينبت الجديد من القديم كما تقول
النظريات العليمة للتطور لأنَّهم استصْغروا الفِكْرة فبرز عندهم الصَّنم في صورة
زعيم ، أو شيخ طريقة، أو حداثيّ "ملهم"، وصنع كل جيل نقاده ومفسروه وقنع
الكثيرون ببذل أقلّ الجهد؛ لتبقى له بطاقة المثقَّف في أصقاع استسلمتْ فيها
الثقافة للسياسة؛ لأنَّ الأولويَّة للبقاء على قيد الحياة، والتِقاط فتات الموائد،
في انتِظار النياشين والجوائز التقديريَّة والتشجيعية وصكوك الغفران.
وفي ظل هذا الصراع
كيف نتساءل بعد هذا عن التخلُّف الحضاريِّ والقحط العلميِّ، وانتشار الأمِّيَّة
الفكريَّة بنسبة مطَّردة مع انتِشار الشّهادات الجامعيَّة تبعا لكثرة عددية كمية
وليست كيفية علي الإطلاق في الجامعات التي انتشرت في ريف مصر بين القرى والمدن !
وقد أدرك الحكماء
أنَّ المثقَّف الَّذي يستحقّ هذا الاسم يحتاج إلى عاملَين ضروريَّين متلازمَين،
هما الصمت والحرِّيَّة، لكنَّ العربيَّ أو المسلم اليوم مُرْغَم على الثَّرثرة
والهتاف بشعارات المتغلِّب والحاكم ومن عجب أننا في زمن الاشتراكية الناصرية
عاصرنا نهضة ثقافية وفنيه لا تتسق مع مناخ الكبت والحاكم الأوحد والحزب الأوحد
والميثاق الوطني الأوحد ، وعلي النقيض من ذلك في عصر الانفتاح الساداتي عاصرنا
القمع الفكري والاستبداد السياسي والقهر الأمني مع التغني بالحرية وتعدد المنابر
ويبلغ العجب مداه مع طول عصر مبارك والاهتمام ببناء البني التحتية في كل المرافق
ومنها المرافق الثقافية عاصرنا انحطاطا ثقافيا وتخلفا فكريا وحضاريا أدي بنا في
النهاية إلي السعي لإسقاط النظام بعد ثلاثة عقود كأنها ثلاثة قرون وكتب الكثيرون
مع هذا يتغنون ّبالحرِّيَّة مع مطلع الشمس !
كرست الحقبة
الناصرية علي توصيل الثقافة ومصادرها ووسائلها من كتاب وفيلم وأغنية ورقصة
وسلوكيات تقاوم الفقر والجهل والمرض وعندما مات ناصر سعي السادات إلي فرض رؤيته
بالانفتاح وإطلاق نشاط الجماعات الدينية لمقاومة الفكر الناصري الطاغي فانقلب
السحر علي الساحر وانطلق مارد سيطرة أمراء الجماعات الدينية والذي لاقي ترحيبا
عقليا وفكريا كبيرا في جامعات مصر في ظل فراغ فكري وسياسي كبير بعد إلغاء منظمة
الشباب والاتحاد الاشتراكي فإذا بالمارد المنطلق مرتديا العمامة وعباءة الدين
بجلباب قصير ينقلب علي من أن أطلقه ويقتل السادات في بوم عرسه وبين قواته ليأتي
مبارك ويحاول أن يروض ذلك الوحش القاتل بالتفاهم والتوافق والتعايش فإذا به يشيخ
هو ونظامه بينما وحش الإرهاب ينمو ويستعد ويقوى حتى واتته الفرصة فأجهز علي النظام
كله حكاما وثقافة وحضارة وبناء وخربت مصر أو كادت ويشهد التاريخ أن جيلنا عاصر
لسوء حظه عاما من الانحطاط حكم فيه التخلف متسربلا بالدين وساد فيه الجهل متهما كل
من سعي للنور بالعلمانية والكفر وأباح لنفسه القتل وسفك الدماء وفصل الرؤوس عن
الأجساد انتصارا لله وللرسول والله يعلم ورسوله أنهم لكاذبون .
إنَّ ثقافة الكلمة
– أي القراءة والكتابة - الَّتي حطَّمت الخُرافة في العقل العربيِّ قبل تحطيم
أوثان مكَّة - قادرةٌ على تجاوز عقبات الأنانيَّة والغطرسة لتبني الإنسان الحرَّ،
المتجاوب مع الكون ومن فيه وما فيه، إذا استندت إلى التَّوحيد وكفرت بالشَّيطان،
أيَّ شيطان، فالثَّقافة الإسلاميَّة استبعدتِ الشُّعراءَ الضَّالِّين والغاوين،
ولم تستبعِد الفنَّ الهادف، وسوء الفهْم مصيبةٌ كبرى، والمتتبِّع لتاريخنا
الثَّقافي يُمكنه أن يلاحظ كيف جمدت ثقافة العقل التي هي ثقافة القرآن ، وبرزتْ
منذ أمدٍ بعيد "ثقافة الإمارة"، فوسِّد الأمر إلى مَن بيده السُّلطة
والمال، فكسَّر كثيرٌ من المثقَّفين مغازِلَهم وأقلامَهم، واختاروا المنفى في
القُصور أو الكهوف أو السُّجون، وتستطيع أن تلمس اختيارهم وأنت تقرأ ما أنتجوه من
شعرٍ أو قصصٍ، أو كتبٍ سياسيَّةٍ، أو علميَّةٍ أو حتي عالميَّةٍ. وتستطيع أن تقرأ ما لم يكتبوه في قسماتِ
وجوههم، وتعبيرات صمتهم، ولهم بعضُ العذر، فثقافة السلطة تقهر المثقَّف الحرَّ
بالوظيفة أو الاستعباد، أو النفي أو التكفير أو المال، ومع ذلك فالخدمة الوحيدة
الَّتي تقدِّمُها هذه الثقافة للحاكم هي خداعُه والهمْسُ وراء ظهره، وهذه مأساتنا،
فما أحوجَنا إلى المبدع الَّذي يحبّب إلينا الثقافة حتَّى نكون من جمهور القلم!
ولن يكون هذا إلاَّ إذا حلَّ الإبداع والنقد محلَّ التقليد والاستهلاك الإجتِراري،
الَّذي تشجِّعُه وزارات الثقافة المتعاقبة في بلادنا لتحمينا من داء الحرِّيَّة،
هذه الوزارات الَّتي تطبع بالمال العام كتبًا مسيئةً للنظام العام، أو تشتري
وتوزِّع كتبًا لا يقرؤُها أحد وتتصارع مؤسسات تلك الوزارة فيما بينها وتتعدد
الأنشطة ذات اللون الواحد سعيا وراء هدف واحد بجهود متعددة تبدد مواردنا دون أن
نحقق هذا الهدف وتدور المطابع في هيئتنا مثلا لإصدارات لا نستطيع أن نلاحقها لا
يشتريها أحد ولا يقتنيها إلا أصحابها وتتكدس بها المخازن وتنوء بها ! ومع ذلك مستمرون !
إنَّ الثقافة أصبحت
شفويَّة جداريَّةً شاشيَّةً، فتراجع دور اليد واللسان لصالح العين والأذن، فضاع
استِعمال جميع الحواس في التَّثْقيف، وإذا حدث ذلك ضاع الفؤادُ، وذلك من جُحود
نِعَم الله - تعالى - وهذا تحدٍّ آخَرُ يُواجِهُنا، ويكاد يسْحَقُنا، أمَّا
"الحداثويَّة" المسمومة، فجَعْجَعتُها صاخبة وجدواها قليل لهذا يلزمنا
التغيير وبسرعة لكي نعوض ما فات ونعيد بناء ما هدمتاه بأيدينا لحساب غيرنا وفق ما
خطط لنا خارج بلادنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق