3- صفحات من تاريخ
الثقافــــة الجمـــاهيرية
شخصيات في حياتي
في حياة كل إنسان أشخاص تركوا بصمات أو علامات أو آثارا هامة في حياته لا يستطيع أن ينساها أو ينساهم وفي حياتي علي المستوى الشخصي كثير من الشخصيات التي كان لها تأثير كبير في حياتي ليس من الإنصاف تجاهلهم أو نسيانهم أو حتى ذكرهم كمجرد أسماء علي وجه الحصر فقط بل ينبغي أن أكتب شيئا عن كل منهم وهذه دعوة إلي كل من يقرأ هذه المقالة أن يحاول الكتابة عن الأشخاص الذين أثروا في حياته وكان لهم فيها دور فعال . وسأدخل في الموضوع بشكل مباشر دون تقديم أو وضع سيناريوهات مسبقة وستكون هذه المقالات عن هؤلاء الأشخاص سلسلة قد لا تكون متصلة الزمن في كتابتها ولكنها في النهاية متصلة الترابط والتأثير وربما تكون المقالة عن شخص واحد أو أكثر حسب الدور الذي لعبه في حياتي أو ربما حسبما تسعفني الذاكرة .
عبد المنعم إبراهيم الشباسي
هو أبي رحمه الله وجعل الجنة مثواه وقد كان المعلم عبد المنعم كما كان يحلو للكثيرين أن ينادوه بهذا الاسم علي اعتبار أن المعلم في تاريخه كان هو الشخص الذي يحمل صنعة أو حرفة يجيدها ويتميز فيها ويحفظ أسرارها وكان المعلم عبد المنعم في زمانه من أمهر صناع الصابون في مصر بدون انحياز ولد بالإسكندرية ونشأ بها وتعلم صناعة الصابون في مصنع أندريا دباس أحد رجال الأعمال الشوام الذين وفدوا إلي مصر وأنشئوا فيها تلك الصناعة وكان من أكبر مصانع الصابون في محرم بك بالإسكندرية ، وكان من أشهر مصانع الصابون بها في الأربعينيات ومنه انتقل لمشاركة أخوين كانا بالإسكندرية هما فرج ومحمد علي فوده اللذان ينتميان في الأصل إلي الزرقا مركز فارسكور مديرية الدقهلية في ذلك الوقت وبدءوا في مصنعهم المستقل الصغير نسبيا وبفضل مهارة المعلم عبد المنعم حققوا بعض النجاح إلا أن الحرب العالمية الثانية داهمتهم وبدأت الطائرات الألمانية تضرب الإسكندرية فهاجر منها الكثيرون وكان الأخوان فرج ومحمد علي فوده من أسرع المهاجرين واصطحبوا معهم إلي قريتهم الزرقا المعلم عبد المنعم وفتحوا بها مصنعا للصابون كان هو الأول من نوعه في المنطقة بأسرها وذاع صيته وانتشرت منتجاته وأقبل عليه التجار من كل البلاد المحيطة وصار له عملائه في دمياط وبورسعيد والمنصورة والمنزلة والمطرية وفارسكور ومعظم الفري المحيطة بالزرقا في ذلك الوقت وعندما اشتدت الحرب وزاد أثرها في وقوع بعض الأزمات التموينية في مختلف السلع وحقق المصنع أرباحا كبيرة . ومن تلك الأرباح قام الأخوان فرج ومحمد علي فوده ببناء مضرب كبير نسبيا لضرب الأرز ومعالجة مشتقاته من سرس ورجيع وإلي جانبه وابور للطحين يطحن للناس حبوبهم المختلفة ونقل مقر مصنع الصابون إلي داخل حيز مضرب الأرز المعماري واجتذبت صناعة الأرز اهتمام الأخوين وقل اهتمامهما بصناعة الصابون التي هي الأصل بالنسبة لهم في كل شيء ، وهنا بدأ يدب الخلاف بينهما وبين المعلم عبد المنعم الذى صبر طويلا علي تبعات هذا الخلاف فقد رأي بذور الانهيار مبكرا قد بدأت تدب في تلك المؤسسة الاقتصادية التي ظن الحاج فرج يومها أنه قد قارب بها طلعت حرب في حجم استثماراته وتفرغ لقراءة الصحف ومتابعة كتب مكتبته الفريدة التي نقلها معه من الإسكندرية حيث كان الحاج فرج عضوا مؤسسا في المحفل الماسوني بالإسكندرية وتضم مكتبته عددا كبيرا من الكتب الصادرة والمترجمة عن طريق هذا المحفل وكان شديد الإعجاب بشخصية كمال أتاتورك وما أحدثه في تركيا من انقلاب علماني ، بينما الشقيق الآخر الحاج محمد رحمه الله فقد كان رجلا طيبا متدينا يرفض توجهات أخيه وينكرها عليه ويرى فيها مضيعة للوقت ، من هنا كانت الخلافات في توجهات الأبناء فكان أحفاد الحاج فرج من ولده الوحيد علي فرج فوده يشعرون في طفولتهم وصباهم بأنهم أقل حظا من أبناء العمومة وورث أشهرهم الدكتور فرج علي فوده فيما بعد مكتبة وفكر جده الحاج فرج ولم يظفر هو وأخوته من الثروة بشيء سواها
وكانت هذه المكتبة هي التي كونت شخصية الدكتور فرج علي فرج فوده من بعد وحددت توجهاته الفكرية المتمردة علي الالتزام الديني حتى دفع حياته في احدي ضواحي مصر الجديدة قتيلا علي أيدي بعض عناصر الجماعات الإسلامية المتطرفة ( الإرهابية ) في تلك الفترة ، بينما اتسمت توجهات أبناء الحاج محمد فوده بالالتزام الديني والخلقي بعيدا عن مظاهر التعصب أو التطرف ، وجمع البيت الكبير الأبناء بكل تناقضاتهم الفكرية والثقافية وكنت وإخوتي نعيش معهم هذا الزخم بكل أبعاده الاجتماعية والمادية والفكرية وكان بيننا تنافسا خفيا في التحصيل والتعليم وكنت زميل دراسة للابنة الكبرى للحاج محمد فوده رحمها الله والتي كانت إحدى أربع بنات فقط من قريتي الزرقا اللاتي التحقن بالتعليم في مدرسة الأستاذ عبد المنعم ناصف الابتدائية والإعدادية فيما بعد ؛
كان والدي رحمه الله يتمتع في القرية بحب كبير من الناس فقد كان رجلا اشتهر بجديته وطيبة قلبه ونصرة الضعيف والمظلوم وكان سخيا في مساعدة الآخرين ولو كان ذلك علي حساب بيته لهذا كان شديد الجدية في تربيتنا علي حب العمل وإتقان الدراسة والتعليم لأنه مع مهارته في صناعته إلا أنه لم ينل حظا كبيرا من التعليم ولكنه كان يجيد ابتكار المعادلات الكيميائية بالسليقة ، الخاصة بابتكار أنواع مختلفة من الصابون وانفصل عن الأخوين فوده واستقل بمصنعه الخاص لصناعة الصابون في الزرقا الذي لاقي نجاحا كبيرا وعاني أيضا من مشاكل وأزمات كبيرة بفعل سياسات حكومية حاربت القطاع الخاص في صناعة الصابون في ذلك الحين حتى قضت عليه لصالح كبار أصحاب مصانع صناعة الصابون في مصر تناقضا مع توجهات النظام الاشتراكي في الستينات الذي كان في ذلك الحين يرفع شعار الكفاية والعدل الكفاية في الإنتاج والعدل في توزيع الثروة والدفاع عن مصالح البروليتاريا بينما في تلك الصناعة أذكر بالاسم وزيرا للتموين كان اسمه مرزبان في عهد عبد الناصر كان له دورا كبيرا في القضاء علي المصانع الصغيرة في مجال صناعة الصابون لصالح حيتان تلك الصناعة وكانت الشعارات تقول شيئا بينما الواقع العملي علي النقيض تماما . وعلي الرغم من ذلك كان أبي رحمه الله يحب جمال عبد الناصر حبا شديدا حتى أنه وهو الغريب عن الزرقا كان عضوا دائما منتخبا من الناس في لجنة الاتحاد الاشتراكي بالقرية وكان من أشد أنصار الراحل يوسف رخا الذي قاد في ذلك الحين تمردا شعبيا علي أسرة المليجي وأقطابها أقارب إبراهيم باشا عبد الهادي رئيس وزراء مصر الأسبق وزعيم الكتلة السعدية التي انشقت عن الوفد ، ورثت عن أبي حبه لعبد الناصر وانضممت لصفوف منظمة الشباب وتدرجت في جميع المراحل التدريبية التي نظمتها في النصف الأول من الستينيات وصرت موجها سياسيا في معهد الفكر الاشتراكي بفارسكور وأمينا للتنظيم بمنظمة الشباب بمركز فارسكور رغم أن النشأة الدينية في مقتبل العمر كان لها فضل كبير في التميز الفكري والثقافي بفضل توجهات الوالد المتزنة وبفضل رجل تخرج من عباءته كثير من الأعلام في الزرقا رغم بساطة حاله هذا الرجل كان له الدور الأول في تكوين شخصيتي وشخصية الكثيرين من أبناء جيلي الذين التحقوا في بداية عمرهم ونحن لم نناهز الرابعة من العمر في كتابه لتعلم القراءة والكتابة وحفظنا علي يديه أجزاء كثيرة من القرآن الكريم ، ذلك الرجل كان هو الشيخ سعيد الجلب رحمه الله عريف الكتاب الوحيد في الزرقا في ذلك التاريخ .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق